الاثنين، 26 يناير 2009

هلاك الكفار ونجاة المؤمنين أو نصرهم في المعارك

إن قصة نوح وموسى عليهما السلام نموذج رفيع للتدليل على أن من أنواع التمكين هلاك الكفار ونجاة المؤمنين، وقصة نوح مع قومه منهج عظيم للدعاة إلى الله, وقصته مليئة بالدروس والعبر، ومما يكسبها أهمية خاصة ما تميزت به، ومن ذلك:
1- أن نوحًا عليه السلام أول رسول إلى البشر، وكل أول له خصوصيته وميزته.
2- امتداد الزمن الذي قضاه في دعوة قومه (950 سنة).
3- كونه من أولى العزم الذين ذكروا في القرآن.
4- ورد اسمه كثيرًا في القرآن الكريم حيث بلغ (43) مرة في (29) سورة من سور القرآن، أي في ربع سور القرآن تقريبًا، مع ورود سورة باسمه في القرآن.
وأما قصة موسى عليه السلام مع فرعون، فتبين ضراوة الصراع بين الحق والباطل, والهدى والضلال، والإيمان والكفر، والنور والظلام, وتسلط الأضواء على استكبار فرعون وتجبره واستعباده عباد الله واستضعافهم واتخاذهم خدمًا وحشمًا وعبيدًا، وكيف أراد الله لبنى إسرائيل أن يرد إليهم حريتهم المسلوبة وكرامتهم المغصوبة, ومجدهم الضائع وعزهم المفقود، إن من يقف أمام إرادة الله فهو عاجز ضعيف، وهو فاشل مهزوم, وإن أعداء الله أينما كانوا هم إلى هزيمة وخسارة وهوان، وتبين لنا كيف انتقم الله من فرعون ونصر وليه موسى عليه السلام وقومه.
وأما قصة طالوت، فتوضح مرحلة مرت بها أمة بنى إسرائيل، فبعد أن وقعوا في المعاصي، وانحرفوا عن منهج الله وسلط الله عليهم الأعداء وأصاب بني إسرائيل ذل وخيم، ومرارة أليمة، وهزيمة عظيمة, وأرادوا أن يغيروا واقعهم المهين، وأن يبدلوا ذلهم عزة وهزيمتهم نصرًا، وعلموا أن السبيل لذلك هو الجهاد والقتال، فطلبوا من نبيهم أن يختار لهم ملكًا يتولى أمورهم، ويقودهم إلى العزة والنصر، ويقاتل لهم أعداءهم، في سبيل الله، فوقع خيار الله على طالوت ليكون ملكًا عليهم، ومن ثم يقودهم إلى النصر والعزة والتحرير، فاعترض الملأ على نبيهم قائلين: +أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ"، فبين لهم نبيهم أن الله اصطفاه عليهم، والله حكيم خبير، وإن الله زاده بسطة في العلم والجسم، وتسلم طالوت قيادة بنى إسرائيل وكانت قصة طالوت مع بنى إسرائيل من أروع القصص القرآني في بيان سنن الله في النهوض بالأمم المستضعفة، وما هي السمات والصفات المطلوبة للقيادة التي تتصدى لمثل هذه الأعمال العظيمة لتقوية الشعوب والنهوض بها نحو المعالي، وفق منهج رباني ووسائل عملية وتربوية عميقة على معاني الطاعة والثبات والتضحية والفداء من أجل العقيدة الصحيحة.
وفي سيرة النبي عليه السلام نجد هذا النوع من التمكين -ألا وهو النصر على الأعداء- واضحًا، فبعد أن هاجر × إلى المدينة قدّر ظرفه وزمانه ومكانه وجهز قوات جهادية حققت أهدافها القريبة والبعيدة، معتمدًا على الله في ذلك، شارعًا في الأخذ بالأسباب التي أمره الله بها، فترك لنا معالم نيرّة في مغازيه الميمونة, ودروسًا عظيمة في كيفية تحقيق النصر على الأعداء والتمكين لدين الله تعالى، بدأ بالسرايا، فحققت أهدافها، ومضى يحاصر قوى البغي والكفر والضلال حتى فتحت مكة، ومن ثم وحدت جزيرة العرب, وأثناء ذلك كان يوجه الضربات المحكمة إلى الوثنية في كل مكان وإلى اليهود الذين نقضوا العهود, وإلى ملوك الأرض يدعوهم للإسلام، فترك البناء متينًا. وقام الخلفاء الراشدون من بعده ليتوسعوا بالإسلام شرقًا وغربًا، وهكذا توالت الأجيال لحمل الرسالة ولأداء الأمانة، وكان تاريخ أمتنا مليئًا بهذا النوع من التمكين، ففي عهد صلاح الدين كانت موقعة حطين على يديه وكان فتح القدس، وفي عهد يوسف بن تاشفين كانت معركة الزلاّقة، وفي عهد محمد الفاتح كان فتح القسطنطينية، وأما في العصر الحديث، فالملحمة الجهادية بين الروس والأفغان انتهت بهزيمة الإلحاد، والمعارك بين الإسلام والنصرانية في جنوب السودان فتحت للمسلمين أبواب الشهادة والعزة والنصر والتمكين، والصراع بين اليهود والمسلمين في فلسطين بين الكر والفر، وهكذا نجد دائمًا عون الله لأهل التوحيد والإيمان على مر العصور وكر الدهور وتوالى الأزمان.

القدس: القبلة الأولى 00 أرض الرباط

القدس: القبلة الاولى
أول ما تمثله القدس فى حس المسلمين وفى وعيهم وفكرهم الديني: أنها (القبلة الاولى) التي ظل رسول الله (ص) وأصحابه يتوجهون اليها في صلاتهم منذ فرضت الصلاة ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة للبعثة المحمدية أى قبل الهجرة بثلاث سنوات، وظلوا يصلون إليها في مكة، وبعد هجرتهم إلى المدينة، ستة عشر شهراً، حتى نزل القرآن يأمرهم بالتوجه إلى الكعية، أو المسجد الحرام، كما قال تعالى:{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة 150]. وفي المدينة المنورة معلم أثرى بارز يؤكد هذه القيضه، وهو مسجد القبلتين، الذى صلى فيه المسلمون صلاة واحدة بعضها إلى القدس، وبعضها إلى مكة، وهو لايزال قائما، وقد جدد وتعهد، وهو يزار إلى اليوم ويصلى فيه.
و قد أثاز اليهود في المدينة ضجة كبرى حول هذا التحول، ورد عليهم القرآن بأن الجهات كلها لله، وهو الذي يحد أيها يكون القبلة لمن يصلي له:{سيقول السفهاء من الناس ما ولهم عن قبلتهم التى كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم (142)} إلى أن يقول: {و ما جعنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وان كان لكبية إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع ايمنكم}[البفرة 142،143].فقد قالوا: ان صلاة المسلمين تلك السنوات قد ضاعت واهدرت، لانها لم تكن الى قبلة صحيحة، فقال الله:{و ما كان الله ليضيع ايمانكم} اى صلاتكم، لانها كانت صلاة الى قبلة صحيحة مرضية عنده عزوجل.

القدس أرض الإسراء والمعراج
و ثانى ما تمثله القدس في الوعي الاسلامي:ان الله تعالى جعلها منتهى رحلة الاسراء الارضية، ومبتدأ رحلة المعراج السماوية، فقد شاتء إرادة الله ان تبدأ هذه الرحلة الارضية المحمدية الليلة المباركة من مكة ومن المسجد الحرام، حيث يقيم الرسول (ص)، وان تنتهى عند المسجد الاقصى، ولم يكن هذا اعتبطا ولا جزافا، بل كان ذلك بتدبير الهى ولحكمة ربانية، وهي ان يتلقى خاتم الرسل والنبيين هناك بالرسل الكرام، ويصلى بهم اماما، وفي هذا اعلان عن انتقال القيادة الدينية للعالم من بني اسائيل الى امة جديدة، ورسول جديد، وكتاب جديد: امة عالمية، ورسول عالمي، وكتاب عالمي، كما قال تعالى: {وما ارسلنك الا رحمة للعالمين (107)} [الانبياء: 107]، {تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا(1)} [الفرقان:1].
لقد نص القرآن على مبتدأ هذه الرحلة ومنتهاها بجلاء في أول آية في السورة التي حملت اسم هذه الرحلة (سروة الإسراء) فقال تعالى:{سبحن الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصا الذى بركنا حوله لنريه من ايتنا} [الإسراء:1]. والآية لم تصف المسجد الحرام بأى صفة مع ماله من بركات وامجاد، ولكنها وصفت المسجد الأقصى بهذا الوصف {الذى بركنا حوله}، وإذا كان ما حوله مباركا، فمن باب أولى ان يكون هو مباركا.
و قصة الاسراء والمعراج حافلة بالرموز والدلالات التي توحي بأهمية هذا المكان المبارك، الذى ربط فيه جبريل البراق، الدابة العجبية التي كانت وسيلة الانتقال من مكة إلى القدس، وقد ربطها بالصخرة حتى يعود من الرحلة الأخرى، التى بدأت من القدس، أو المسجد الأقصى إلى السموات العلا، إلى “سدرة المنتهى”، وقد أورث ذلك المسلمين من ذكريات الرحلة:الصخرة، وحائط البراق.
لو لم تكن القدس مقصودة في هذه الرحلة، لاأمكن العروج من مكة إلى السماء مباشرة، ولكن المرور بهذه المحطة القدسية أمر مقصود، كما دل على ذلك القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.
ومن ثمرات رحلة الإسراء: الربط بين مبتدأ الإسراء ومنتهاه، وبعبارة أخرى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهذا الربط له إيحاؤه وتأثيره في وعي الإنسان المسلم وضميره ووجدانه، بحيث لا تنفصل قدسية أحد المسجدين عن قدسية الآخر، ومن فرط في أحدهما أوشك أن يفرط في الآخر.

القدس ثالث المدن المعظمة:
و القدس ثالث المدن المعضمة في الإسلام؛فالمديتة الأولى في الإسلام هي مكة المكرمة، التى شرفها الله بالمسجد الحرام. والمدينة الثانية في الإسلام هي طيبة، او المدينة المنورة، التي شرفها الله بالمسجد النبوي، والتي ضمت قبر الرسول (ص). والمدينة الثالثة في الإسلام هي القدس أو البيت المقدس، والتي شرفها الله بالمسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله، وفي هذا صح الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، عن النبي (ص) أنه قال: “لاتشد الرحال إلا ألى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا “.
فالمساجد كلها متساوية في مثوبة من صلى فيها، ولا يجوز للمسلم أن يشد رحاله، بمعنى أن يعزم على السفر والارتحال للصلاة في أى مسجد كان، إلا للصلاة في هذه الثلاثة المتميزة.
و قد جاء الحديث بصيغة الحصر، فلا يقاس عليها غيرها.
وقد أعلن القرآن عن أهمية المسجد الأقصى وبركته، قبل بناء المسجد النبوي، وقبل الهجرة بسنوات، وقد جاءت الأحاديث النبوية تؤكد ما قرره القرآن، منها الحديث المذكور، والحديث الآخر: “ الصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة في غيره من المساجد، ما عدا المسجد الحرام، والمسجد النبوي” (متفق عليه) ومنها، ما رواه أبوذر، أن النبي (ص) سئل: أي المساجد بني في الأرض أول ؟ قال:”المسجد الحرام “، قيل ثم أي؟ قال:”المسجد الأقصى “
[1].
و الإسلام حين جعل المسجد الإقصى ثالث المسجدين العطمين في الإسلام، وبالتالي أضاف القدس الى المدينتين الإسلاميتين المعظمتين: مكة والمدينة، إنما أراد بذلك أن يقرر مبدأ هاما من مبادئه وهو أنه جاء ليبني لا ليهدم، وليتمم لا ليحطم، فالقدس كانت أرض النبوات، والمسلمون أولى الناس بأنبياء الله ورسله كما قال الرسول (ص) ليهود المدينة: “ نحن أولى بموسى منكم “.

القدس أرض النبوات والبركات
و القدس جزء من أرض فلسطين بل هي غرة جبينها، وواسطة عقدها، ولقد وصف الله هذه الأرض بالبركة في خسمة مواضع في كتابه:
أولها: في الإسراء حين وصف المسجد الأقصى بأنه: {الذي بركنا حوله} [الإسراء:1].
و ثانيها: حين تحدث في قصة خليله إبراهيم، فقال: {ونجينه ولوطا إلى الارض التى بركنا فيها للعالمين (71)} [الانياء:71].
و ثالثها: في قصة موسى، حيث قال عن بني إسرئيل بعد اغراق فرعون وجنوده: {و اورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشرق الارض ومغربها التىبركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بنى اسرائيل بما صبروا} [الاعراف:137].
و رابعها: في قصة سليمان وما سخر الله له من ملك لا نيبغى لأحد من بعده، ومنه تسخير الريح، وذلك في قوله تعالى: {ولسليمن الريح عاصفة تجرى بامره الى الارض التى بركنا فيها}[الانبياء:81].
و خامسها: في قصة سبأ، وكيف من الله عليهم بلأمن والرغد، قال تعالى: {وجعلنا بينهم وبين القرى التى بركنا فيها قرى ظهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالى وأياما ءامنين(18)}[سبأ:18]. فهذه القرى التي بارك الله فيها هي قرى الشام وفلسطين.
قال المفسر الآلوسي: المراد بالقرى التي بورك فيها: قرى الشام، لكثرة أشجارها وثمارها، والتوسعة على أهلها، وعن ابن عباس: هي قرى بيت المقدس، وقال ابن عطية: إن إجماع المفسرين عليه
[2].
و قد ذهب عدد من مفسري القرآن من علماء السلف والخلف في قوله تعالى: {و التين والزيتون (1) وطور سينين (2) وهذا البلد الأمين (3)} [التين: 1-3] إلى أن التين والزيتون يقصد بهما الأرض أو البلدة التي تنبت التين والزيتون، وهي بيت المقدس.
قال ابن كثير: قال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة بعث الله من كل واحد منها نبيا مرسلا من أولى العزم، أصحاب الشرائع الكبار، فالأول: محل التين والزيتون، وهو بيت المقدس، الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام، والثاني: طور سيناء، الذي كلم الله عليه موسى بن عمران، والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا. وبهذا التفسير أو التأويل، تتناغم وتنسجم هذه الأقسام، فاذا كان البلد الأمين يشير الى منبت الإسلام رسالة محمد، وطور سينين يشير الى منبت اليهودية رسالة موسى، فان التين والزيتون يشيران الى رسالة عيسى، الذي نشأ في جوار المقدس، وقدم موعظته الشهيرة في جبل الزيتون
[3].

أرض الرباط والجهاد
و القدس عند المسلمين هي أرض الرباط والجهاد. فقد كان حديث القرآن عن المسجد الأقصى، وحديث الرسول عن فضل الصلاة فيه، من المبشرات بأن القدس سيفتحها الإسلام، وستكون للمسلمين، وسيشدون الرحال الى مسجدها، مصلين لله متعبدين، وقد فتحت القدس -التي كانت تسمى إيلياء-في عهد الخليفة الثاني في الاسلام عمر ابن الخطاب، واشترط بطريركها الأكبر صفرونيوس ألا يسلم مفاتيح المدينة الا للخليفة نفسه، لا لاحد من قواده، وقد جاء عمر من المدينة الى القدس في رحلة تاريخية مثيرة، وتسلم مفاتيح المدينة، وعقد مع أهلها من النصارى معاهدة أو اتفاقية معروفة في التاريخ باسم "العهد العمري" أو "العهدة العمرية" أمنهم فيها على معابدهم وعقائدهم وشعائرهم وأنفسهم وأموالهم، وشهد على هذه الوثيقة عدد من قادة المسلمين، أمثال: خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان
[4].
و قد أعلم الله نبيه محمدا (ص) بأن هذه الأرض المقدسة سيحتلها الأعداء، أو يهددونها بالغزو والاحتلال، ولهذا حرض أمته على الرباط فيها، والجهاد للدفاع عنها حتى لا تسقط في أيدى الأعداء، ولتحريرها إذا قدر لها أن تسقط في أيديهم (كما أخبر عليه الصلاة والسلام بالمعركة المرتقبة بين المسلمين واليهود، وأن النصر في النهاية سيكون للمسلمين عليهم، وأن كل شئ سيكون في صف المسلمين حتى الحجر والشجر، وأن كلا منهما سينطق دالا على أعدائهم، سواء كان نطقا بلسان الحال أم بلسان المقال
[5]. وقد روى أبو أمامة الباهلي عن النبي (ص) أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم، الا ما أصابهم من لأواء (أى أذى) حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك “، قالوا: وأين هم يا رسول الله ؟ قلا: “بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
***
القدس تهود جهارا
في الثاني من سبتمبر1997 دعيت من قبل (مجمع البحوث الاسلامية بلندن) للمشاركة في مؤتمره العلمي الاول عن (القدس) والقاء كلمة فيه بهذه المناسبة. فحضرت وقلت في بداية كلمتي:
في هذه السنة(1997م) تتزاحم ذكريات مهمة وبارزة نخص قضيتنا الاولى: قضية القدس وفسطين.
في هذه السنة تمر ذكرى مرور قرن (100سنة) على عقد المؤتمر الصهيوني الاول في (بازل) بسويسرا برياسة (هرتزل) عام 1897م، وظهور المؤسسة الصهيونية العالمية.
كما تمر ذكرى (80)ثمانين عاما على مرور وعد بلفور المشؤوم باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين (نوفمبر 1917م).
و كذلك ذكرى نصف قرن على قرار تقسيم فلسطين (1947م) الذي كان تمهيدا لقيام اسرئيل (1948).
و ايضا ذكرى مرور ثلاثين سنة على احتلال القدس والضفة الغربية وغزة سنة (1967م) بعد حرب الايام الستة المعروفة في 5 حزيران (يونيو) 1967م.
و اخيرا ذكرى مرور عشرين عاما على زيارة الرئيس السادت الى إسرائيل (1977م) التى مثلت بداية الخلل في وحدة الموقف العربي تجاه اسرئيل.
و نحن الآن نجني ثمار هذه الأحداث المريرة، وأشد هذه الثمار مرارة: محاولة اسرئيل “تهويد القدس” العربية الاسلامية، وفق تخطيط معلوم، ونهج مرسوم، وعلى مرأى ومسمع من أكثر من مائتين وخمسين مليونا من العرب، ووراءهم أكثر من مليار من المسلمين. وعلى الرغم من قرارات الامم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. وبمساندة وتأييد من أمريكا القوة الاولى والوحيدة، والمتألهة في العالم اليوم.
و لاتزال اسرائيل تتابع (حفرياتها) تحت المسجد الاقصى، وتنشئ مدينة سياحية تحته، فيما زعموا، وقد سمعت في مؤتمر القدس المذكور من الأخ الشيخ رائد صلاح، رئيس بلدية أم الفحم في فلسطين المحتلة، ورئيس الحركة الاسلامية هناك، أنه أتيح له الاطلاع على هذه الحفربات، ورأى المسجد الأقصى مهددا بالانهيار في وقت غير بعيد.
و هذا يؤكد كل ما قلته وأعلنته مرارا من أن اسرئيل تعرف متى ينهار المسجد، وهي محددة له وقتا معينا، توقع فيه ذلك وتعلنه، وهى ستختار الوقت المناسب لهذا الافعل، بحيث يكون العرب والمسلون مشغولين في همم أخرى تلهيهم عن هذا الخطب الجسيم، أو تجعل احتجاجهم عليه مجرد صراخ لا يرد حقا، ولايقاوم باطلا! ويكون العالم أيضا مشغولا بخطب آخر، قد تكون اسرئيل أو الصهيونية العالمية هي صانعة ومدبرته.
و هكذا تتعرض القدس العربية الاسلامية: مدينة المقدسات، وأرض النبوات، وبلد الإسراء والمعراج، ودار المسجد الأقصى، الذي بارك الله حله والذي هو عند كل مسلم بمنزلة سواد العين، وسويداء القلب. تتعرض هذه المدينة للتهويد المبيت، والانتهاب المخطط، والالتهام المدبر، ويتعرض المسجد الاسلامي المعظم للخطر المؤكد، بما يقع تحته وحوله من حفريات مستمرة، تهدف في النهاية الى ازالتة، واقامة هيكل اليهود المزعوم على أنقاضه.
الهدف واضح وصريح، والخطة معلومة، والعمل معلن، اتفق عليه اليهود جميعا، أيا كان انتماؤهم واتجاههم: دينيين كانوا أم علمانيين، من حزب (الليكود) الصريح المتعجرف، أم من حزب (العمل) المناور المراوغ.
و مع هذا لا زلنا نركض ونسابق الريح،سعيا الى سلام بائس، لا يقيم لفلسطين دولة، ولا يعيد اليها مشردا، ولايرد اليها قدسها وعاصمتها، ومع هذا الغبن الفاحش، والظلم المبين، تركل اسرئيل، ويركل بنيامين نتنياهو السلام المزعوم بقدميه، رضي القتيل ولم يرض القاتل!
و هذا كلما تنازلنا عن حق مؤكد لنا، أصرت اسرائيل على باطل مدعى لها، وهي في كل يوم تأخذ منا ما تريد، ونحن لا نأخذ نقيرا ولا قطميرا، إلا وعودا مزعومة، أشبه بما قال الشاعر:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيد ها الا الاباطيل
فلا يغرنك ما منت وما عدت ان الاماني والأحلام تضليل
بل الواقع أن اسرائيل في عهد الليكود أمست تضن علينا حتى بالوعود، وان كانت سرابا. فهي تتبجح بالرفض المطلق، ولا تخاف ولا تستحي. وقد قال رسول الاسلام: “ ان مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: اذا لم تستح فاصنع ما شئت !”.متفق عليه.
أن أسرائيل تستكبر وتبغى فى الأرض بغير الحق، لإنها لم تجد من يردها ويوقفها عند حدها.
فهى تريد سلاما من منظورها هي، ووفق مصلحتها، وتبعا لاستراتيجيتها التوسيعية، وأطماعها الاقليمية، المتمثلة في اسرائيل الكبرى: من الفرات الى النيل، ومن الارز الى النخيل ! ولكنها قد تخفي ذلك أو تسكت عمه في وقت ما، تبعا لسياسة (المراحل) التي تجيدها اسرائيل من قديم.
ولقد ساعدت الظروف العالمية والإقليمية والمحلية القائمة اليوم، إسرائيل على هذا التجبر والطغيان الذي نشهده، وتتمثل تلك الظروف في الاستسلام الفلسطيني، والعجز العربي، والوهن الاسلامي، والغياب العالمي، والتفرد الامريكى، والتحيز الامريكي ايضا.
ولكن هل تضمن إسرائيل أن تبقى هذه الظروف المساعدة لها باقية الى الابد؟ وهل أخذت صكا على القدر الاعلى أن تبقى الرياح في الاتجاه الذي تهوى ؟
نحن بقراءة سنن الله في الكون، وقراءة التاريخ من قبل، واستقراء الواقع في عالمنا: نؤمن بأن الدنيا تتطور، وأن العالم من حولنا يتغير، بل يتغير بسرعة غير محسوبة ولامتوقعة، كما رأينا في انهيار الاتحاد السوفيتي، وفي ظهور الاتحاد الاوروبي، وفي ظهور قوى اقتصادية جديدة في العالم. وهو ما عبر عنه الناس عندنا من قديم فقالوا: دوام الحال من المحال. وما عبر عنها القرآن في صورة سنة كونية عامة، فقال: {وتلك الايام نداولها بين الناس} [آل عمران: 140]. قال ذلك في أعقاب غزوة أحد التي انكسر فيها المسلمون في عصر النبوة، وقدموا فيها سبعين من أغلى شهدائهم، بعد انتصار مبين قبلها في غزوة بدر، التي سمى القرآن يومها: {يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} [الانفال: 41].