الأحد، 15 مايو 2011

التنمية في القرآن والسنة :


إن إسلام وضع للتنمية حسابا خاصا فجعلها في حكم الواجب وذلك من تفسير الآية ” هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَ“ هود:61) . فالسين والتاء تفيد الطلب المطلق من الله للناس في سبيل الوجوب لإعمار الأرض فالآية تؤكد على وجوب عمارة الأرض ؛ واستعمركم فيها يعني أمركم بعمارتها بما تحتاجون إليه . كما قال الجصاص أن ذلك فيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغرس والأبنية "( )0 والطلب المطلق من الله تعالى يكون على الوجوب"( ). فاستعمركم فيها أي جعلكم عمارها وسكانها .
قال مجاهد : ومعنى استعمركم أعمركم من قوله أعمر فلانا داره فهي له عمري . وقال قتادة : أسكنكم فيها . وقال الضحاك : أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار , وقيل المعنى : ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار . وقال ابن العربي : قال بعض علماء الشافعية : الاستعمار طلب العمارة ، والطلب المطلق من الله تعالى على الوجوب . فقوله تعالى استعمركم فيها، خلقكم لعمارتها .( )
وقال الشوكانى فى فتح القدير : هو أنشأكم من الأرض أي ابتدأ خلقكم من الأرض لأن كل بني آدم من صلب آدم وهو مخلوق من الأرض ، واستعمركم فيها أي جعلكم عمارها وسكانها .( )
ويقول الزمخشري في الكشاف هو أنشأكم من الأرض : لم ينشئكم منها إلا هو ولم يستعمركم فيها غيره ، وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب ، واستعمركم فيها أمركم بالعمارة ، والعمارة متنوعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه , وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وعمروا الأعمار الطوال مع ما كان فيهم من عسف الرعايا فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم فأوحى إليه إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي ( ).
ولقد استخدم على بن أبى طالب لفظ العمارة للدلالة على معنى أعمق للتنمية الاقتصادية بمفهومها المعاصر في خطابه لواليه في مصر مالك بن الحارث الأشتر : جاء فيه : " وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب خراجها ، لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة . ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلا قليلاً ، " ( ).
كذلك استخدم قاضي القضاة " أبي يوسف " لفظ العمارة في نصيحته لأمير المؤمنين هارون الرشيد جاء فيها : " إن العدل وإنصاف المظلوم ، وتجنب الظلم مع ما في ذلك من الأمر ، يزيد به الخراج ، وتكثر به عمارة البلاد " . وكذلك فأن "أبو يوسف" في كتابه (الخراج) جعل الإعمار والتنمية في مقابل الخراب , والفساد ونادي بدور متقدم للدولة في العمران . كما دعا إلى تقاسم تكاليف (النمو) بين الفرد والدولة من أجل تخفيف كاهل التنمية ، وسحب المواطن عن الكسل والإتكال ، والدفع به للمساهمة في دور عمراني مع بقية أفراد المجتمع .( )
ويرى " الماوردي " : أن من مستلزمات السلطان عمارة البلدان باعتماد مصالحها وتهذيب سبلها ومسالكها . غير أنه يلزمها بالعدل ، حيث ينعدم نجاح المشروع الإنمائي إذا لم يصطبغ بالعدل الشامل الذي يعمر البلاد وينمي الأموال ( ).
ويقول المقريزى : " عندما يتقلص العدل مع هيمنة الفساد والحبور والاغتصاب في كل مواطن الحكم والإدارة يتوقف الإعمار وتحدث الأزمات ويحل البوار بالديار "( ) .
ويقوم مفهوم عمارة الأرض في الإسلام على شرط الخلافة في الأرض , وتبعية الاستخلاف تعني تسخير الموارد الطبيعية (الأرض ) للإنسان ليعمل على إنتاج السلع والخدمات لخدمة الخلق المستخلفين . وتمكين الإنسان من هذه السلع والخدمات ، تمكين استعمال أو ملكية انتفاع ، وعمارة الأرض لا تقوم إلا بالعمل لان العمل هو شرط الملكية . وكل عمل ابن آدم محاسب عليه.
والإنسان في الإسلام محور العملية التنموية فجعله قيمة حقيقية عندما استخلفه في الأرض بما لديه من قدرات ذهنية وجسدية، قال تعالى: ” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً” (البقرة:30)، لذلك فإن على الإنسان أن يغير وينمي ولا يتنظر المفاجآت الكونية والنمو الطبيعي ،قال تعالى: ” إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الأنفال:52)، لذا فإن على الإنسان العمل بجد لعمارة الأرض .
كما ارتبطت التنمية في الإسلام بالقيم والأخلاق الحميدة من مساواة وعدل وعدم الإسراف وقوله تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " (الحجرات:31)
وقد حث الإسلام على السعي من اجل التنمية ،قال تعالى:” وان ليس للإنسان إلا ماسعى“ ودعا الإسلام للعمل من أجل التنمية والعمارة ، قال تعالى:” فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” ( الملك:15)، وقد ظهر ذلك من قصة الرسول مع صاحب اليد الخشنة عندما سلم الرسول صلى الله عليه وسلم على رجل فلمس يده خشنة فقال له الرسول " إن هذه اليد التي يحبها الله إن هذه اليد لن تمسها النار"0
وقد ركز الإسلام في تعاليمه على التنمية و العطاء من أجل تحقيق التنمية و إعمار الأرض، وذلك من خلال العمل الجاد بدلاً من انتظار الإحسان، و يتبين ذلك من خلال العديد من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية ومن بينها: ما رواه البخاري عن الزبير بن العوام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه". و قول الله تعالى" و أن ليس للإنسان إلا ما سعى".
و قد قال عمر بن الخطاب " السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة." فيحث الإسلام على العمل الجاد و يعتبره عبادة فهو جزء لا يتجزء من الدين، فكل مسلم مطالب بأن يعمل، لتنمية المجتمع المسلم والارتقاء والعلو بشأنه 0
كما تعد الزكاة أحد الوسائل التي من خلالها يتم تحقيق التنمية في الإسلام، ففي العصور الإسلامية الماضية كانت تجمع الزكاة في بيت المال وتوزع بالعدل و لم تكتفي بسد الاحتياجات الأساسية للفقراء بل كانت تستخدم لتوفير وسائل العمل و كسب الرزق، فدور الزكاة لا يقتصر على توزيع الأموال على الفقراء، بل كانت تستخدم لإنشاء مشروعات للفقراء، و بهذا تعد الزكاة وسيلة هامة لخلق فرص عمل، و لكننا نجد الآن أن الزكاة و غيرها من أشكال العطاء الديني , و العطاء الاجتماعي توجه فقط لسد الاحتياجات الأساسية , ولا تهتم بتحقيق التنمية مما أدي إلى استمرار حالات الفقر, و العديد من المشاكل الاقتصادية0
ولقد حدد الله رسالة الإنسان في الأرض بقوله تعالى: " هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود:61) ويتم الإعمار المطلوب بالتنمية المتواصلة و السعي الدءوب في الأرض . ( (و قد أصبح هذا السعي من أهم أولويات هذا العصر و خاصة أن مشكلات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية تعتبر من أهم المشكلات التي تواجه المجتمعات المعاصرة.
و قد جاء الإسلام ليحارب السلوك السيئ مثل الكسل و الاتكالية و عدم السعي الذي ينتج عنه التخلف, و الفقر لبناء كيان اقتصادي , و اجتماعي , و استقلال سياسي يتجاوز الواقع المتخلف ( ) 0
حاول بعض الكتاب استنباط مفهوم للتنمية في الإسلام، استنادًا إلى نصوص أو معان قرآنية :
فقيل إن التنمية هي طلب عمارة الأرض، وذلك من قوله تعالى { هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } ( هود الآية 61 )
وقيل إن التنـمية تعــني «الحياة الطيبة»، إشارة إلى معنى الآية الكريمة { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل:97].
وقيل هي نقل المجتمع من الوضع الذي لا يرضاه الله، إلى الوضع الذي يرضاه0
والتنمية بالمعنى المعاصر يقصد بها زيادة الموارد عن طريق كثرة الإنتاج و تقليل النفقات , و يستخدم هذا المصطلح كثيرا في الدراسات الاقتصادية كما يستخدم بصورة أكثر تحديداً عن طريق ربطها بالمجالات المختلفة كمصطلح التنمية الاقتصادية و الاجتماعية, و السياسية و الزراعية ( )
و التنمية يجب أن تكون تنمية متواصلة و مستمرة يستفاد منها الأجيال المقبلة ( ) و هي عملية حضارية تمثل نقله جذرية في الشكل و المضمون على المجتمع ككل, و ليست فئة معينة به, و هذه العملية الحضارية تمتد إلى كل المجالات مثل الاقتصاد , و السياسة, و الإدارة و الثقافة. ( )
ونظرً لأهمية التنمية، والسعي الحثيث لتحقيقها في واقع المجتمعات الإنسانيّة، ولاسيما المتخلفة منها، فإنّ «مفهوم التنمية أصبح عنواناً للكثير من السياسات والخطط والأعمال، على مختلف الأصعدة، كما أصبح هذا المصطلح مثقلاً بالكثير من المعاني والتعميمات، وإنْ كان يقتصر في غالب الأحيان على الجانب الاقتصادي، ويرتبط إلى حدّ بعيد بالعمل على زيادة الإنتاج الذي يؤدي بدوره إلى زيادة الاستهلاك، لدرجة أصبحت معها حضارات الأمم تقاس بمستوى دخل الفرد، ومدى استهلاكه السنوي للمواد الغذائية والسكنية بعيداً عن تنمية خصائصه ومزاياه وإسهاماته الإنسانيّة، وإعداده لأداء الدور المنوط به في الحياة، وتحقيق الأهداف التي خلق من أجلها»( ).
ونجد أنّ هذه النظرة المادية لعملية التنمية قد استقرت في عقول معظم شعوب العالم الإسلامي، وسيطرت على تفكيرهم، نتيجة الهيمنة الغربية، وسيطرة ثقافتها لذا وجب علينا أن نعرف وندرك ما هي التنمية في الإسلام ونحدد مفاهيمها .
ونجد أنّ مفهوم التنمية ليس بثابت ولا بمتفق عليه، بل كلٌ يتناوله من الزاوية التي هي محل اهتمامه، بحيث يقصر نظره في العملية التنموية من خلال اختصاصه.
وهذا ما يدعونا إلى محاولة تقديم مفهوم للتنمية يتماشى مع المنظور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، وذلك بالاعتماد على المصادر الأساس لشريعة الإسلام.

ليست هناك تعليقات: